بعد 17 سنة من تأسيسه.. مجلس الجالية بين الجمود ورهانات الإصلاح

هبة بريس – عبد اللطيف بركة

في العاشر من غشت من كل سنة، يتجدد النقاش الوطني حول أوضاع الجالية المغربية المقيمة بالخارج ومؤسساتها التمثيلية وفي طليعتها مجلس الجالية المغربية بالخارج، الذي أنشئ سنة 2007 كهيئة استشارية مهمتها تأطير العلاقة بين الدولة ومغاربة العالم والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم وتيسير اندماجهم في السياسات العمومية المرتبطة بالهوية والتنمية.

تأسس هذا المجلس بموجب الظهير الشريف رقم 1.07.208 في مرحلة كانت تشهد تحولات كبيرة على مستوى الهجرة المغربية وكان الهدف آنذاك واضحاً وهو خلق قناة مؤسساتية دائمة للحوار والتنسيق بين الوطن وأبنائه في الخارج عبر هيكلة تُعطي صوتاً للجالية داخل منظومة القرار الوطني.

ورغم الوعود التي رافقت تأسيس المجلس والتوقعات العالية التي وُضعت عليه، إلا أن حصيلته بعد أكثر من 17 سنة تظل محل نقاش واسع في الأوساط السياسية والحقوقية والمدنية بالنظر إلى ما يعتبره الكثيرون محدودية في الفعالية وغياب آليات التقييم والمساءلة وتوقف دينامية المجلس عند حدود معينة لم تتجاوز طموحات التأسيس.

ويُجمع عدد من المتابعين على أن تجديد هذا المجلس بات ضرورة استراتيجية وليس خياراً ظرفياً خصوصاً في ظل ما تعرفه الجالية المغربية من تطور ديمغرافي وتنوع ثقافي وسياقات دولية جديدة تستوجب مقاربات أكثر شمولية وواقعية.

– رهانات تجديد مجلس الجالية: رؤية جديدة لجالية متجددة

إحدى الأولويات الأساسية في أي عملية إصلاح مرتقبة هي إعادة بناء الثقة بين الجالية والمؤسسات التي تمثلها، وهي ثقة تآكلت بفعل ضعف التواصل وغياب الشفافية وغياب تمثيلية حقيقية لمختلف الشرائح الجغرافية والاجتماعية والمهنية للجالية، الأمر الذي جعل المجلس في نظر العديدين بعيداً عن الواقع الفعلي لمغاربة العالم
ينبغي أن يكون المجلس القادم تجسيداً لمبدأ التعدد والتمثيل الشامل لاختلافات الجالية سواء من حيث الأجيال أو من حيث الأقطار أو من حيث التخصصات والكفاءات، كما أن إشراك النخب المغربية بالخارج من أكاديميين ورجال أعمال ومهنيين وحقوقيين يمثل حجر الزاوية في ضمان فعالية مؤسسة تسعى لتكون قوة اقتراحية ذات مصداقية وطنية ودولية.

من الرهانات الأساسية أيضاً تبسيط الإجراءات الإدارية المرتبطة بالجالية المغربية، وهو تحدٍّ ما زال قائماً رغم الرقمنة الجزئية التي عرفتها بعض القطاعات، إذ لا يزال العديد من مغاربة الخارج يواجهون صعوبات في الولوج إلى الخدمات الإدارية والقنصلية التي تظل في كثير من الحالات مرهقة زمنياً ومادياً وغير ملائمة لأوضاعهم

ويُنتظر أن يواكب المجلس الجديد هذا الورش من خلال تطوير أدوات رصد ميداني لاحتياجات الجالية والعمل على نقلها بشكل فعال إلى الجهات المعنية في المغرب بالإضافة إلى تقديم مقترحات واقعية تستند إلى تجارب ناجحة في بلدان أخرى في مجال التعامل مع مواطنيها بالخارج

– تحفيز مساهمة الجالية: من التحويلات إلى الاستثمار والتنمية

تشكل التحويلات المالية للجالية أحد أعمدة الاقتصاد الوطني إذ بلغت مستويات قياسية في السنوات الأخيرة إلا أن مساهمة مغاربة العالم في الاستثمار المنتج لا تزال ضعيفة نسبياً ولا تتجاوز حدود عشرة في المئة من حجم هذه التحويلات، وهو ما يعكس وجود إكراهات بنيوية تحتاج إلى تفكيك عاجل.

لا يمكن الحديث عن دور تنموي حقيقي للجالية دون توفير مناخ استثماري جاذب وشفاف يرتكز على الثقة وتبسيط المساطر وضمانات قانونية ومالية واضحة، وهذا ما ينبغي أن يضطلع به مجلس الجالية في صيغته الجديدة عبر لعب دور الوسيط بين الجالية ومؤسسات الاستثمار ومواكبة المشاريع من الفكرة إلى التنفيذ.

كما يجب أن تتضمن رؤية المجلس الجديد بُعداً ثقافياً وهوياتياً يراعي احتياجات الأجيال الجديدة من مغاربة المهجر التي تحتاج إلى تأطير معرفي وهوياتي متوازن يحميها من مخاطر الذوبان الثقافي ويساعدها على الاندماج الإيجابي في مجتمعات الإقامة دون انقطاع عن الجذور

– دروس من الماضي ومسؤولية المستقبل

أثبتت التجربة السابقة أن تغييب الجالية عن صياغة القرار المتعلق بها أو تهميش كفاءاتها يولد الإحباط ويضعف الثقة، لذا فإن أي هيكلة جديدة يجب أن تنطلق من استيعاب هذه الدروس وتبني آليات جديدة تضمن مشاركة فعلية وتواصل دائم وشفافية في المعلومة وصراحة في الطموحات
كما أن الطابع الحزبي الذي طبع بعض مراحل تدبير الشأن المرتبط بالجالية لم يكن دوماً في صالح المهاجر المغربي، بل ساهم أحياناً في تحويل المؤسسات إلى فضاءات للمزايدات السياسية بدل أن تكون منصات لخدمة المواطن في الخارج، مما يفرض اليوم الفصل التام بين العمل المؤسساتي والعمل الحزبي داخل مجالس الجالية

المطلوب اليوم ليس فقط إعادة هيكلة المجلس من حيث الشكل بل إعادة بنائه من حيث الوظائف والأدوار والوسائل حتى يكون أداة للتقارب الوطني والتكامل المؤسساتي بين مغاربة الداخل والخارج

– دور التوجيهات الملكية في رسم ملامح الإصلاح

لطالما شكلت التوجيهات الملكية المرتبطة بالجالية المغربية مرجعاً أساسياً في رسم السياسات العمومية حيث دعا جلالة الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة إلى ضرورة إنصاف مغاربة المهجر وتوفير الحماية القانونية والاجتماعية لهم وتعزيز ارتباطهم بوطنهم الأم وتيسير مساهمتهم في تنميته
هذه التوجيهات يجب أن تكون بمثابة بوصلة لأي عملية إصلاح مرتقبة لمجلس الجالية من حيث فلسفة التمثيل وطبيعة المهام وقنوات التواصل والآليات القانونية التي تضمن استمرارية الأداء وفعاليته.

المجلس الجديد ينبغي أن يُبنى على منطق الخدمة العمومية النبيلة لا منطق التموقع السياسي الضيق وأن يكون بمثابة حلقة وصل فاعلة ومتوازنة بين الجالية والدولة في إطار احترام الحقوق والواجبات وتكريس الانتماء الوطني دون قطيعة مع خصوصيات بلدان الإقامة.

– من مؤسسة جامدة إلى صوت فاعل للجالية المغربية

إن تحول مجلس الجالية المغربية بالخارج من مؤسسة جامدة إلى آلية دينامية تشتغل وفق مقاربة تشاركية وتعددية يتوقف على الإرادة السياسية في التغيير وعلى الجرأة في تجديد الهياكل والآليات والوظائف
الجالية المغربية اليوم ليست فقط مصدراً للتحويلات المالية بل رأسمال بشري وثقافي واقتصادي واعد يحتاج إلى إطار مؤسساتي قادر على استثماره في خدمة الوطن

المجلس الجديد يجب أن يعكس هذا الوعي وأن ينطلق من قراءة واقعية لانتظارات الجالية المغربية في الخارج وأن يضع خدمة المواطن في قلب أولوياته لتقوية الروابط مع الوطن وتعزيز دور الجالية في الحاضر والمستقبل.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى